تعهّد الله -تعالى- بحفظ القرآن الكريم، وظهرتْ العناية به منذ أنْ وضعه -سبحانه- في بداية الأمر في كتابٍ مكنونٍ* في السماء، وأقسم قسماً عظيماً في حقيقة حفظه له، إذ قال: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ*فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ*لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ*تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ)؛[١] فقد حَفَِظه في اللوح المحفوظ مَخفيّاً عن الأعين، لا يمسّه أو يطّلع عليه أحدٌ إلّا الملائكة الكرام التي تحفظه، قال -تعالى-: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ*فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ)،[٢] كما يُؤكّد الله -تعالى- على أنّ القرآن محفوظٌ بنزوله من السماء إلى الأرض؛ إذ أُنزِل بواسطة ملائكةٍ مُطهَّرين دون إمكانية وصول أيّ روح سيّئةٍ أو خبيثةٍ إليه، فحُفِظ من الشياطين، قال -تعالى-: (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ*وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ)
وقد تلقّى النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- القرآن حين نزوله، وحفظه بشكلٍ كاملٍ، وعمل به، وبلّغه للناس أتمّ بلاغٍ، وقد تكفّل الله بأن يحفظ القرآن الكريم في صدر النبيّ -عليه الصلاة والسلام-، فلا يُستصعَب أمره، ولا يُنسى منه شيء، كما حَرِص النبيّ على تدارُسه ليلاً ونهاراً، وكان يُقيم الليل تالياً له في صلاته حتى قِيل إنّ قدمَيه تفطّرتا، وكان جبريل -عليه السلام- يأتي إلى النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- مرّةً في كلّ عامٍ يقرأ عليه القرآن؛ ليتأكّد من ثباته في قلب النبيّ، وكان قد أتاه مرّتَين للغرض ذاته قبل وفاته، أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنّ النبي -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (إنَّ جِبْرِيلَ كانَ يُعَارِضُنِي القُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وإنَّه عَارَضَنِي العَامَ مَرَّتَيْنِ، ولَا أُرَاهُ إلَّا حَضَرَ أجَلِي).أبو بكر الصدّيق أول من جمع القرآن
يُراد بجمع القرآن؛ حِفظه في الصدور، وكتابته على أكمل وجهٍ، بسُوره، وآياته، وكلماته، وحروفه، فيكون جمعاً في السطور والمصاحف، وجمعاً آخر في الصدور والنفوس، ويُشار إلى أنّ أوّل من جمع القرآن الكريم في السطور هو أبو بكر الصدّيق -رضي الله عنه- وهو عبدالله بن عثمان بن عامر بن كعب التميميّ القرشيّ؛ أوّل الخلفاء الراشدين
جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصدّيق
كان السبب في جمع القرآن الكريم في زمن أبي بكر الصدّيق -رضي الله عنه- خوفُ الصحابة -رضي الله عنهم- من ضياع شيءٍ منه، خاصّةً بعد استشهاد كثيرٍ من حَفَظة القرآن، فكان الأفضل أن يُجمَع في موضعٍ واحدٍ؛ لِما في ذلك من أمانٍ، وحِفاظٍ عليه؛ خوفاً ممّا قد يحصل في المستقبل، وكانت معركة اليمامة التي جرتْ أحداثها في السنة الثانية عشرة للهجرة قد استشهد فيها قريباً من سبعين صحابياً من كبار القرآء وحفّاظ القرآن الكريم.[١٠] أمّا السبب الباعث للجمع في عهد عثمان بن عفّان -رضي الله عنه- فقد تمثّل في جمع الناس على اللفظ الذي كُتِب به القرآن عند نزوله على النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، ومَنع القراءة بلفظٍ يُخالفه.
لجنة جمع القرآن في عهد أبي بكر الصدّيق
تكوّنت لجنة جمع القرآن في عهد أبي بكر من عددٍ من الصحابة، وكُتّاب الوحي، على رأسهم زيد بن ثابت؛ لِما تحلّى به من الخصائص التي أهّلَته لتلك المهمّة؛ إذ إنّه شَهِد العَرضة الأخيرة للقرآن على النبيّ -عليه الصلاة والسلام-، إضافةً إلى أنّه كان من كُتّاب الوحي زمن النبيّ -عليه الصلاة والسلام-.
وقد لَقِيت الصُّحف التي جمعها زيد بن ثابت عنايةً كبيرةً من الصحابة؛ فحَفِظَها أبو بكر الصدّيق عنده طوال حياته، ومن ثمّ انتقلت إلى كَنَف عمر بن الخطّاب إلى حين استشهاده؛ فحفظتها ابنته حفصة -رضي الله عنها- إلى أن طلبها منها عثمان بن عفان -رضي الله عنه- حين أراد نَسخ القرآن، واتُّخِذت تلك الصُّحف مَرجعاً أساسياً، ثمّ أعادها إليها؛ حفاظاً على الوعد، ثمّ طلبها مروان بن الحكم، إلّا أنّ حفصة -رضي الله عنها- رفضت إعطاءه إيّاها، وظلّت الصُّحف لديها إلى أن تُوفِّيت، ثمّ أُحرِقت بعد وفاتها،وتجدر الإشارة إلى أنّ القرآن لم يكن يُسمّى في السابق بالمصحف إلّا بعد عملية الجمع التي أمر بها أبو بكر الصدّيق -رضي الله عنه-، وقد أُطلِق عليه هذا الاسم بعد انتهاء زيد بن ثابت من جَمعه.
مُميّزات جمع القرآن في عهد أبي بكر الصدّيق
امتاز جمع القرآن الكريم الذي تمّ في عهد أبي بكر الصدّيق بعدّة ميّزاتٍ؛ إذ احتوى على الأحرف السبعة* التي نزل بها القرآن الكريم جميعها في مصحفٍ واحدٍ مُرتَّبٍ بالآيات، والسُّوَر، فكان الجمع على أدقّ وأكمل وجه، كما كانت الصُّحُف مُتواتِرةً؛ إذ رُوِيت عن عددٍ كبيرٍ لا يُمكن اجتماعهم على الكذب؛ ولذلك فقد أجمعت الأمّة على ذلك الجَمع، ويُضاف إلى ما سبق أنّ الصُّحف التي جُمِعت وافقت ما جاء في العرضة الأخيرة للقرآن الكريم من النبيّ -عليه الصلاة والسلام-، واقتصرت على ما لم يُنسَخ تلاوةً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب لنا ملاحظانك او تعليقك او تبهنا لاي خطأ مشكورا